سوري سويت رح اقسم الموضوع لانه كبير ^^^
((نشأته وحياتة))
المتنبي هو أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الملقَّب بأبي الطيّب ووالده الحسين يُعرف بعبدان السقاء. وكان مولد المتنبي بالكوفة في محلة يقال لها كِندة سنة ثلاثٍ وثلاث مئة هجرية. ثم صحب الأعراب في البادية وجاء بعد سنتين بدويًا قحًا. وكان محبًا للعلم والعلماء ذا قوةٍ حافظة فقد رأى يومًا رجلاً يعرض كتابًا بستين صفحة فأخذه منه ونظر فيه طويلاً وأعاده لصاحبه وأقبل يتلوه حتى آخره. وإنما لُقّب بالمتنبي لأنه ادَّعى النبوَّة في بادية السماوة وهي أرضٌ بحيال الكوفة مما يلي الشام. وهذا بعض كلامه الذي كان يزعم أنه قرآن أُنزل عليه:
"والنجم السيَّار والفلك الدوَّار والليل والنهار إنَّ الكافر لفي أخطار. امضِ عَلَى سننَك واقف أَثرَ مَن كان قبلك من المرسلين فإن الله قامعٌ بكَ زيغَ مَن ألحدَ في الدين وضلَّ عن السبيل".
ولما فشا أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيد فاعتقله وجعل في رجله وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف. فكتب إليه المتنبي من السجن يستعطفه بالقصيدة التي مطلعها:
أيا خدَّد الله وردَ الخدود وقدَّ قدود الحسان القدود
فعفى عنه وأطلقه. ولم يزل بعد خروجه من الاعتقال في خمول وضعف حال حتى اتصل بأبي العشائر الحسن بن الحسين بن حمدان العدوي وكان بأنطاكية فمدحه بعدَّة قصائد. ولما قدم الأمير سيف الدولة أبو الحسن عليَّ بن عبد الله بن حمدان العدَوي إلى أنطاكية قدَّم أبو العشائر المتنبي إليه وأثنى عنده عليه وعرَّفه منزلته من الشعر والآداب.
كان سيف الدولة ملكًا عَلَى حلب انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي سنة 333 وكان أديبًا شاعرًا مجيدًا شديد الاهتزاز لجيّد الشعر. قيل لم يجتمع بباب أحد الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من الشعراء وله معهم أخبار كثيرة. وكانت ولادته سنة 303 وهي سنة ولادة المتنبي، ووفاته سنة 356 بعد مقتل المتنبي بسنتين.
فاشترط المتنبي عَلَى سيف الدولة أول اتصاله به أنه إذا أنشد مديحه لا ينشده إلا وهو قاعدٌ وأنه لا يكلَّف بتقبيل الأرض بين يديه. وكان ذلك سنة 337، وصحب سيف الدولة في غزواته وامتدحه وحسن موقعه عنده فقرَّبه إليه وأحبه وأجازه الجوائز السنيَّة وسلمَّه إلى الروَّاض فعلموه الفروسية والطراد والمشافقة.
قال عبد المحسن بن لوجك عن أبيه: كنت بحضرة سيف الدولة وأبي الطيب اللغوي وأبي الطيب المتنبي وأبي عبد الله بن خالويه النحوي وقد جرت مسئلة في اللغة تناقش فيها ابن خالويه وأبو الطيب اللغوي فأضعف المتنبي قول ابن خالويه فأخرج من كمه مفتاحًا لكم به المتنبي فقال هذا: اسكت ويحك فإنك أعجمي وأصلك خوزي فمالك وللعربية فضرب وجه المتنبي بالمفتاح فأسال دمه عَلَى وجهه وثيابه. وغضب المتنبي إذ لم ينتصر له سيف الدولة لا قولاً ولا فعلاً وكان سبب فراقه سيف الدولة سنة 346. قال الدهان في المآخذ النكدية من المعاني الطائية إن أبا فراس الحمداني قال يومئذٍ لسيف الدولة إن هذا المتشدّق كثير الإدلال عليك وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار فلو فرَّقت مائتي دينار عَلَى عشرين شاعرًا لأتوك بأحسن من شعره. فتأثر سيف الدولة بكلام أبي فراس وعمل به. وكان المتنبي غائبًا وبلغته القصة فدخل عَلَى سيف الدولة وقال القصيدة التي مطلعها: واحرّ قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ
حكى عليّ بن حمزة البصروي قال: بلوتُ من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة وتلك أنه ما كذب ولا زنى ولا لاط. وبلوت منه ثلاث خلال ذميمة وتلك أنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن. وقال ابن فورجة : كان المتنبي رجلاً داهية مرّ النفس شجاعًا حافظًا للآداب عارفًا بأخلاق الملوك ولم يكن فيه ما يشينه ويسقطه إلا بخله وشرهه علَى المال.
وأحسن قصائد أبي الطيب هي التي في سيف الدولة. وتراجع شعره بعد مفارقته وسئل عن ذلك فقال: قد تجوَّزت في قولي وأعفيت طبي واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان.
قال أبو عثمان بن جني: كنتُ قرأتُ ديوان المتنبي عليه فلما وصلتُ إلى قوله في مدح كافور : أُغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغلب وأعجبُ من ذا الهجر والوصلُ أعجبُ
قلت له يعزُّ عليَّ كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة. فقال حذرناه وأنذرناه وما نفع فيه الإنذار، ألست القائل فيه: أخا الجود أعط الناس ما أنت مالكٌ: فهو الذي أعطاني إلى كافور بسوء تدبيره وقلة تمييزه.
ولما عزم أبو الطيب عَلَى الرحيل من حلب أتى دمشق وكان فيها يهودي من أهل تدمر يُعرف بابن ملك من قِبل كافور الإخشيدي ملك مصر فالتمس من المتنبي أن يمدحه فثقل عليه فغضب ابن ملك. وطلب كافور المتنبي من ابن ملك فكتب هذا إليه أَن أبا الطيب قال: لم أقصد العبد وإن دخلتُ مصر فما قصدي إلا ابن سِيده. وضاقت دمشق بالمتنبي فصار إلى الرملة فحمل إليه أميرها ابن طغج هدايا نفيسة وخلع عليه وحمله عَلَى فرسٍ بموكب كبير وقلده سيفًا محلَّى. وكان كافور يقول لأصحابه أترونه يبلغ الرملة ولا يأتينا. ثم كتب يطلبه من الحسين أمير الرملة فسيَّره إليه. فلما قدم أبو الطيّب أمر له كافور بمنزل ووكل به جماعة وأكرم وفادته وخلع عليه وطالبه بمدحه. فقال المتنبي قصيدته المشهورة التي استهلالها: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا
المتنبي - رحلته إلى مصر بدعوة كافور
كان كافور عبدًا أسود خصيًا مثقوب الشفة السفلى بطينًا قبيح القدمين. وكان لقومٍ من أهل مصر يُعرفون ببني العباس يستخدمونه في حوائج السوق. وكان مولاه يربط في رأسه حبلاً إذا أراد النوم فإذا أراد منه حاجة يجذبه بالحبل لأنه لم يكن ينتبه بالصياح. وكان غلمان ابن طغج يصفعونه في الأسواق كلما رأوه فيضحك فقالوا: إن هذا الأسود خفيف الروح. وكلّم أبو بكر محمد بن طغج صاحبه في بيعه فوهبه له فأقامه عَلَى وظيفة الخدمة. ولما توفي سيده أبو بكر كان له ولدٌ صغير فتقيَّد الأسود بخدمته وأخذت البيعة لولده فتفرَّد الأسود بخدمته وخدمة أُمه فقرَّبَ من شاءَ ثم ملك الأمر على ابن سيده وأمر أن لا يكلمه أحدٌ من مماليك أبيه ومن كلمه أَوقع به. فلما كبر ابن سيده وتبيَّن ما هو فيه جعل يبوح بما في نفسه في بعض الأوقات عَلَى الشراب ففزع الأسود منه وسقاه سمًا فمات وخلَت مصر له. وحكم مصر ثلاثا وعشرين سنة. فكان المتنبي يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفَّان وفي وسطه سيفٌ ومنطقة. وسأله يومًا أن يوليه صيدا من بلاد الشام أو غيرها من بلاد الصعيد فقال له كافور : "أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سمت نفسك إلى النبوة فإن أصبت ولايةً وصار لك أتباعٌ فمن يطيقك؟".
ثم وقعت الوحشة بينهما ووضع كافور العيون والأرصاد مخافة أن يهرب وأحسَّ المتنبي بالشرّ واعتزم الرحيل فخرج ودفن الرماح في الرمال وحمل الماء على الجمال لعشر ليالٍ وتزوَّد لعشرين. وقال في يوم عرَفة سنة 350 قبل رحيله من مصر بيوم قصيدته المأثورة:
عيد بأية حالٍ عدتَ يا عيد _________________________
بما مضى أم لأَمرٍ فيك تجديدُ _________________________
وفي العيد سار أبو الطيب من مصر هاربًا وأخفى طريقه فلم يوجد له أثر حتى دخل الكوفة في شهر ربيع الأول سنة 351 ونظم مقصورته التي أولها:
ألا كلُّ ماشيةِ الخيزلى _________________________
فدى كلّ ماشية الهيذبى _________________________
وصف بها مسيره عن مصر وذكر المنازل التي قطعها. ثم توجَّه إلى بغداد .
المتنبي في بغداد
قال أبو عليّ الحاتمي: كان أبو الطيّب عند وروده مدينة السلام قد التحف برداء الكبر والعظمة يخيل له أنَّ العلم مقصورٌ عليه وأنَّ الشعر لا يغترف عذبه غيره. وثقلت وطأته عَلَى أهل الأدب وطأطأ كثيرٌ منهم له رأسه وخفض له جناحه. وساء معز الدولة أن يرد على حضرته رجلٌ لم يكن بمملكته أحد يماثله فيما هو فيه فيبدي لهم عواره ويهتك آثاره. فتوخيت أن يجمعنا مجلس يجري كلامنا في مضمار ليعرف السابق من المسبوق. فلما لم يتفق ذلك قصدتُ مجلسه فوافق مسيري إليه حضور جماعة يقرءون عليه فحين استأذن لي نهض من مجلسه لمخدعٍ وخرج إليَّ يكلمني فقلت يا هذا يختلج في صدري أشياء من شعرك أُريد أن أسأل عنها وأُراجعك فيها. قال وما هي. قلت أخبرني عن قولك:
إذا كان بعض الناس سيفًا لدولةٍ
ففي الناس بوقات لها وطبولُ
وقولك :
في فيلقٍ من حديدٍ لو قذفت بهِ
صرف الزمان لما دارت دوائره
فهو من قول الناجم. أما قولك:
الناس ما لم يروك أشباهُ
والدهر لفظٌ وأنتَ معناهُ
فهو من قول منصور بن بسَّام. فقال أين أنتَ من قولي:
كأنَّ الهام في الهيجا عيـون
وقد طبعت سيوفك من رقـادِ
وقد صغت الأسنَّة من همومٍ
فما يخطرنَ إلاَّ في فـــؤادِ
أما يكفيك إحساني في هذه؟ قلتُ ما أعرف لك إحسانًا في جميع ما ذكرت وإنما أنت سارق متبع وآخذ مقصر. فأما قولك: كأنَّ الهام... فمنقولٌ من قول النميري منصور. وأما قولك: في فيلق... فمنقول من قول الناجم وأبي تمام ومنصور بن بسَّام وأبي نواس والنابغة الذين أخذوا من عبد الله بن داره ومن غيره. فقال أبو الطيّب ألستُ القائل:
ذي المعالي فليعلونْ مَن تعالى
هكذا هكذا وإلاَّ فلا لا
شرفٌ ينطح النجوم بروقيــه
وعزٌ يقلقلُ الأجبــالا
قلت أخذتَ البيت الأول من بكر بن النطاح والثاني من أبي تمام وأفسدته إذ جعلت لشرف الرجل قرنًا. قال هي استعارة. قلت استعارة خبيثة. فبهره ما أوردته وأمسك عبارته. وكنتُ بلغت شيئًا كان في صدري وعلمتُ أن الزيادة على الحدّ الذي انتهيتُ إليه ضربٌ من الأسر والبغي ورأيت له حق التقدُّم في صناعته فطأطأت له كتفي ونهضت فنهض لي مشيعًا إلى باب الدار وتأكدت بيني وبينه الصحبة وصرتُ أتردد إليه أحيانًا.
وكان المتنبي يتجاهل من شعر أبي تمام لكنه قال أخيرًا: "أيجوز للأديب أن يعرف شعر أبي تمام وهو أستاذ كل من قال الشعر بعده؟". وكان من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها. ولما استقرَّ في دار السلام وترفَّع عن مدح الوزير المهلبي شقَّ ذلك على المهبلي فأغرى به شعراء العراق وتباروا في هجائه فلم يجبهم ولم يفكر فيهم. فقيل له في ذلك فقال: إني فرغتُ من إجابتهم بقولي لمن هو أرفع طبقة في الشعر منهم.
أرى المتشاعرين غروا بذمّي
ومن ذا يحمد الداء العضالا
ومَن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريـضٍ
يجد مرًّا به المـاء الـزلالا
سفره إلى شيراز ببلاد فارس
ثم رحل المتنبي عن بغداد متوجهًا إلى حضرة العميد أبي الفضل محمد بن الحسين وزير ركن الدولة بأرجان سنة 354 فحسن موقعه عنده وأنشده القصيدة التي استهلها بقوله:
بادٍ هواكَ صبرتَ أم لم تصبرا
وبكاك إن لم يجرِ دمعكَ أو جرى
وسار أبو الطيب وما ودّع ابن العميد وقال عند مسيره: نسيت وما أنسى عتابًا على الصدّ ولا خفرًا ازادت به خمرة الخدِّ
قاصدًا أبا شجاع عضدالدولة بشيراز فأنشده القصيدة: آوهِ بديلٌ من قولتي وآها لمن نأت والبديل ذكراها
ولما نجحت سفرته وربحت تجارته بحضرة عضد الدولة ووصل إليه من صلاتهِ أكثر من مائتي ألف درهم استأذنه في المسير إلى شيراز ثم يعود إليه فأذن له وأمر بأن تخلع عليه الحلل الخاصة وتُعاد صلته بالمال الكثير فامتثل وأنشده القصيدة التي هي آخر شعره سنة 354 وقد ضمنها قولاً كأنه ينعي به نفسه، ومطلعها: فِدىً لكَ من يقصّر عن مداكا فلا مَلكٌ إذن إلاَّ فداكا
وقد أكثر أبو الطيّب من التشاؤم على نفسه في هذه القصيدة بما لم يقع له في غيرها وما لم يخطر على قلبه في جميع عزائمه وأسفاره، وذلك أنه بعد ارتحاله من شيراز قُتل في الطريق. وهذا شيءٌ مما روي عن مقتله:
مقتل المتنبي
قال الخالديان: كتبنا إلى أبي النصر محمد الجلّي نسأله عما وقع لأبي الطيب المتنبي بعد مفارقته عضد الدولة وكيف كان قتله. وأبو النصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية. فأجابنا عن كتابنا جوابًا طويلاً يقول في أثنائه أما ما سألتما من خبر مقتل أبي الطيّب المتنبي فأنا أسوقه لكما وأشرحه شرحًا بينًا. اعلما أن مسيره كان من واسط يوم السبت لعشر ليالٍ بقيت من شهر رمضان سنة 354 بقريةٍ تقرب من دير العاقول في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان. والذي تولى قتله وقتل ابنه محسَّد وغلامه رجلٌ من بني أسد يُقال له فاتك بن أبي جهل بن فراس بن شداد الأسدي. وكان من قول فاتك لما قتله: "قبحًا لهذه اللحية يا قذَّاف المحصنات". وذلك أن فاتكًا هذا هو خال ضبَّة بن يزيد العيني الذي هجاه أبو الطيّب بقوله:
ما أنصف القوم ضبَّه _________________________
وأمه الطُرُطُبَّه _________________________
فيقال إن فاتكًا داخلته الحمية لما سمع ذكر أخته أم ضبَّة بالقبح في هذه القصيدة فكان ذلك سبب قتل أبي الطيب وابنه وأصحابه وذهاب ماله.
وأما شرح الخبر فإن فاتكًا هذا صديقٌ لي وهو كما سمّى فاتكٌ لسفكه الدماء وإقدامه على الأهوال. فلما سمع القصيدة التي هجا بها ضبَّة اشتدّ غضبه ورجع على ضبّة باللوم وقال له كان يجب أن لا تجعل لشاعرٍ عليك سبيلاً وهو يضمر السوء على أبي الطيب ولا يتظاهر به. واتصل به انصراف أبي الطيب من بلاد فارس وتوجهه إلى العراق وعلم أن اجتيازه بجبل دير العاقول فلم يكن ينزل عن فرسه ومعه جماعة من بني عمه يرون في المتنبي مثل رأيه فكانوا لا يزالون يتسمون أخباره من صادر ووارد. وكان كثيرًا ما ينزل عندي فقلت له يومًا وقد جاءني وهو يسأل قومًا مجتازين عن المتنبي أراك قد أكثرت السؤال عن هذا الرجل فماذا تريد منه إذا لقيته. فقال ما أريد إلاَّ الجميل وعذله على هجاء ضبَّة. فقلت هذا لا يليق بأخلاقك. فتضاحك ثم قال يا أبا نصر والله لئن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقعةٌ لأسفكنَّ دمه وامحقنَّ حياته إلا أن يُحال بيني وبينه بما لا أستطيع دفعه. فقلتُ له كفَّ عن هذا وارجع إلى الله فإن الرجل شهير الاسم بعيد الصيت ولا يحسن منك قتله على شعر قاله وقد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام فما سمعنا بشاعرٍ قُتل بهجائه. وقد قال الشاعر:
هجوت زهيرًا ثم إني مدحتهُ _________________________
وما زالت الأشراف تُهجى وتُمدحُ _________________________
فقال يفعل الله ما يشاء وانصرف. وما مضى بعد هذا إلا أيامٌ قليلة حتى وافاني المتنبي ومعه بغال موقرة من الذهب والفضة والطيب والملابس والتجملات النفيسة والكتب الثمينة والأدوات الكثيرة، لأنه كان إذا سافر لا يترك في منزله درهمًا ولا شيئًا يساويه. وكان أكثر إشفاقه على دفاتره لأنه كان قد انتخبها وأحكمها قراءة وتصحيحًا. فتلقيته وأنزلته في داري وسألته عن أخباره وعمن لقي في تلك السفرة فعرّفني من ذلك ما سررت بهِ له وأقبل يصف ابن العميد وفضله وكرمه وعلمه، وكرم عضد الدولة ورغبته في الأدب وميله إلى أهله. فلما أمسينا قلت له يا أبا الطيّب علامَ أنتَ مجمعٌ؟ قال على أن أتخذ الليل مركبًا فإن السير فيه أخفّ عليَّ. قلت هذا هو الصواب رجاء أن يخفيه الليل ولا يصبح إلا وهو قد قطع بلدًا بعيدًا. وقلت له والرأي أن يكون معكَ من رجال هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة جماعةٌ يمشون بين يديك إلى بغداد فقطَّب وجهه وقال: فما تريد بذلك؟ قلتُ أريد أن تستأنس بهم في الطريق. فقال أنا والجُراز في عنقي فما لي حاجة إلى مؤنسٍ غيره. قلت الأمر كما تقول ولكن الرأي في الذي أشرت به عليك. فقال تلويحك ينبي عن تعريضٍ وتعريضك ينبي عن تصريحٍ فعرفني جلية الأمر. قلت إن هذا الجاهل فاتكًاالأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام وهو غير راضٍ عنك لأنك هجوت ابن أخته ضبَّة وقد تكلم بما يوجب الاحتراز والتيقظ ومعه أيضًا جماعة نحو العشرين من بني عمه. فقال غلام أبي الطيّب الصواب يا مولاي ما أشار به أبو النصر، خذ معك عشرين رجلاً يسيرون بين يديك إلى بغداد. فاغتاظ أبو الطيّب من غلامه غيظًا شديدًا وشتمه شتمًا قبيحًا وقال: والله لا أرضى أن يتحدَّث الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. فقلتُ يا هذا أنا أرسل قومًا من قِبلي في حاجة لي يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك. فقال والله لا فعلتُ شيئًا من هذا. ثم قال: يا أبا نصر أَبنجو الطير تخوّفني ومن عبيد العصا تخاف عليَّ؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون لخمسٍ وقد نظروا الماء كبطون الحيَّات ما جسر لهم خفٌ ولا ظلفٌ أن يرده معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين. فقلتُ له قل إن شاء الله فقال هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيًا ولا تستجلب آتيًا. ثم ركب فكان آخر العهد به. ولما صحَّ عندي خبر قتله وجَّهت من دفنه ودفن ابنه وغلامه وذ هبت دماؤهم هدرًا. هذا هو الصحيح من خبره وقيل أن بني ضبة قتلوه بعد أن قاتل قتالاً شديدًا. وقد رثاه أبو القاسم مظفر بن عليّ الطبسي بقوله:
لا رعى الله صرفَ هذا الزمان
إذ دهانا بمثل ذاك اللســانِ _________________________
كان من نفسـه الكبــيرة في _________________________
جيشٍ ومن كبرياهُ في سلطان _________________________
ما رأى الناس ثانيَ المتـنبي _________________________
أيُّ ثانٍ يرى لبكر الزمــانِ _________________________
هو في شــعره نبيٌّ ولكن _________________________
ظهرت معجزاته في المعاني _________________________
ورثاه ثابت بن هارون البرقي النصراني بقصيدة يستثير بها عضد الدولة على فاتك الأسدي ومطلعها:
الدهرُ أخبث والليالي أنكد ُ _________________________
من أن تعيش بأهلها يا أحمد _________________________
ورثاه أبو الفتح عثمان بن جني بقصيدة يقول في أولها:
غاض القريضُ وأذوت نضرة الأدبِ _________________________
وصوَّحت بعد ريٍّ دولة الكتبِ _________________________
منها:
عمرتَ خدنَ المساعي غير مضطربٍ _________________________
ومتَّ كالنصل لم يدنس ولم يعبِ _________________________
اختلف علماء الأدب في شعر المتنبي وبيان منزلته فمنهم من رجحه على أبي تمام والبحتري ومنهم من رجحهما عليه وقد عني بشرح قصائده النقَّاد من المتقدمين والمتأخرين بينهم الجرجاني وابن جني وأبوالعلاء المعرّي وابن سِيده والمستوفي وإبرهيم الإقليلي وأبو بكر الخوارزمي والتلمساني والخطيب التبريزي والسيد البطليوسي وغيرهم حتى جاوز عدد شرَّاحه الأربعين مما لم يسبق لغيره من شعراء العربية. على أن أبلغ شرح وأوفاه هو الذي ابتدأه الشيخ ناصيف اليازجي وأتّمه ابنه الشيخ إبرهيم وأضاف إليه خاتمة وحيدة في بابها نقد فيها نقد العالم المدقق شعر المتنبي فرأينا أن نقتطف منها ما نورده فيما يلي:
رأي الشيخ إبراهيم اليازجي
الغرض من هذا الفصل الكلام على شعر المتنبي من حيث هو كلام تراد منه المطابقة بين المسموع والمفهوم فأذكر ما له من إجادة أو تقصير في استخدام الألفاظ من حيث هي قوالب للمعاني مع بيان الحدّ الذي جرى إليه في ذلك ومنزلة شعره من هذه الوجهة مما يرجع بالأكثر إلى أدب الكاتب وصناعة اللغوي ويكون مرمى لنظر علماء المعاني وأصحاب الترسل في صياغة اللفظ وتقديره على المعنى. وهذا مما ألمَّ به بعض المتكلمين على ديوانه. إلا أنهم على الغالب يشيرون إليه من جانب البحث ولم أجد مَن تفرَّغ لإشباع الكلام فيه مع أنه لم يشرح هذا الديوان شارح إلا خبط في دياجير لفظه وهام في تيه تعبيره. والعجب أن كثيرًا من خاصة الناس فضلاً عن عامتهم ممن يذهبون إلى تفضيل المتنبي على سائر الشعراء يرون أنه إنما نال هذه المنزلة وانفرد بالمزية على غيره لخفاء معانيه. وعندي إن ما كان كذلك حتى يحتاج في استخراج معناه إلى استباط القريحة وقدح زند الخاطر وحتى يكون المعنى من عند الشارح لا من عند الشاعر لا يستحق أن يسمى شعرًا. وما أرى ابن خلدون ومن على رأيه نفى الشاعرية عن المتنبي إلا لأبياته المبهمة التي ظهر عليها أثر الصنعة وتجاذبها التكلف والتعقد. وإذا جاوزت هذه النظائر من شعره إلى ما له من المعاني المبتكرة والقلائد المعدودة مما أجمع أهل العلم والشعر على تبريزه فيه واعترف أنداده وحسَّاده من الشعراء باختراعه له لم تكد تجد فيه خفاءً ولا إشكالاً بل هو في غالب حاله غاية الغايات في استحكام التأليف وبداهة التعبير وجودة السبك ووضوح المراد قد كسته الفصاحة زخرفها وألقى عليه البيان نوره فتسابقت معانيه إلى الأفهام وعلقت ألفاظه بالخواطر والأوهام واستوى في إنشاده الخاصي والعامي والتقى على استحسانه العالم والأمي. فمن غرره المشهورة قوله:
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي _________________________
فكان القتال قبل التـلاقي _________________________
وتكاد الظبى لما عــودَّوهـا _________________________
تنتضي نفسها إلى الأعناق _________________________
وقوله وهو من غريب تصرفه في المعاني:
لجيادٍ يدخلنَ في الحرب أعرآ _________________________
ءً ويخرجنَ من دم في جلال ِ _________________________
واستعار الحديد لونًا وألقى _________________________
لونـه في ذوائب الأطفــالِ _________________________
ومن بدائعه السائرة قوله:
رماني الدهر بالأرزاء حتى _________________________
فؤادي في غشاءٍ من نبــال _________________________
فصرت إذا أصابتني سهام _________________________
تكسرت النصالُ على النصال ِ _________________________
ومن حسنات قوله:
وقفتَ وما في الموتِ شكّ لواقفٍ _________________________
كأنك في جفن الردى وهو نائمُ _________________________
تمرُّ بك الأبطال كلمى هزيمـة _________________________
ووجهك وضَّاح وثغرك باسـمُ _________________________
ومنها:
تدوسُ بك الخيل الوكور على الذرى _________________________
وقد كثرت حول الوكور المطاعمُ _________________________
تظنُّ فراخ الفتــخ أنك زرتــها _________________________
بأماتها وهي العتاقُ الصـــلادمُ _________________________
إذا زلقت مشــيتها ببطــونها _________________________
كما تتمشى في الصعيد الأرائــمُ _________________________
وهذا القدر من قلائده كافٍ في مقام الاستشهاد ولو أردتُ استيفاءَ ما له من الحسنات والمعجزات لم يكفني ما هو دون المجلدات ومن أراد الاستقصاء في ذلك رددته إلى الديوان من غير أن أشير إلى موضع مخصوص ولا قصيدة بعينها لأن غالب شعره من هذا النسج الأنيق والوشي البديع. وبما ذكرَ ومثله اشتهر المتنبي وارتفع قدره وأُشير إلى موضعه في كل طبقة من الناس. وهذا هو المحفوظ من شعره الذي سارت به الركبان وتناقلته الرواة وعمرت به أندية الأدب ورنَّ صداه في محافل الخطب والذي به صار المتنبي ما تمثله الأذهان وتسمع به الآذان.
وكأني بالمتنبي مع طول باعه في صناعة الأدب وفضل علمه بمواقع الإساءة والإحسان كان قليل النقد لشعره حريصًا على كل ما يبدو من خاطره لا يسمح بشيءٍ منه مع طول قصائده واستقلالها بعد حذف كثيرٍ من أبياتها لو اقتصر منها على الجيّد لساد أمراء الشعر بلا مدافع ولم تجد في نقدة الكلام وجهابذة الأدب من يقدّم شاعرًا عليه".
رأي الشيخ إبراهيم اليازجي - تابع
ذهب بعض النقَّاد إلى أن الحكّم المأثورة التي أوردها المتنبي في قصائده قد استمدها من أقوال أرسطو. وعلَّلوا ذلك بأن المتنبي كان مطلعًا على فلسفة ذلك الحكيم اليوناني بما نقل منها إلى العربية. أما المرجَّح فهو أن اتفاق أبي الطيّب وأرسطو في جملة من الآراء والنظرات الفلسفية لم يكن إلا تواردًا اتفق مثله للكثيرين من عباقرة البشر.
وقد عني الإمام أبو عليّ محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي المعروف بالحاتمي بالموافقة بين أقوال أرسطو وأبيات المتنبي فكان في درسه باحثًا مدققًا وناقدًا منصفًا قال:
"لما رأيت أبا الطيب أحمد بن الحسين الشاعر اللغوي المعروف بالمتنبي قد أتى في شعره على أغراض فلسفية ومعاني منطقية أردت الموافقة بين ما توارد به في شعره مع أرسطو في حكمهِ لأنه إن كان ذلك عن فحص ونظر، فقد أغرق في درس العلوم وإن يكن ذلك منه على سبيل الاتفاق، فقد زاد على الفلاسفة في ذلك. وهو في الحالين على غاية الفضل وقد أوردت من جملة ما يستدل على فضله:
قال أرسطو: إذا كانت الشهوة فوق القدرة، كان هلاك النفس دون بلوغها.قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا _________________________
تعبت في مرادها الأجسامُ _________________________
قال أرسطو: النفوس أغراض لحوادث الزمان.
قال المتنبي:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا _________________________
فأهون ما يمرُّ به الوحولُ _________________________
قال أرسطو: الألفاظ المنطقية مضرَّة بذوي الجهل لنبوّ إحساسهم عن إدراكها.
قال المتنبي:
بذي الغباوة من إنشادها ضررٌ _________________________
كما تضرُّ رياح الوردِ بالجُعَلِ _________________________
قال أرسطو: الزمان ينشئ ويلاشي، فغنى كل قوم سبب لكون قوم آخرين.
قال المتنبي:
بذا قضتِ الأيامُ ما بينَ أهلها _________________________
مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ _________________________
قال أرسطو: باعتدال الأمزجة وتساوي الإحساس يفرق بين الأشياء وأضدادها.
قال المتنبي:
وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظره _________________________
إذا استوت عنده الأنوار والظَلمُ _________________________
قال أرسطو: من لم يردك لنفسه فهو النائي عنك وإن تباعدتَ أنت عنه.
قال المتنبي:
إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا _________________________
إن لا تفارقهم فالراحلون همُ _________________________
قال أرسطو: من علم أن الفناء مستولٍ على كونه هانت عليه المصائب.
قال المتنبي:
والهجرُ أقتلُ لي مما راقبهُ _________________________
أنا الغريقُ فما خوفي من البللِ _________________________
قال أرسطو: العيان شاهد لنفسه، والاختبار يدخل عليها الزيادة والنقصان.
قال المتنبي:
وخذ ما تراه ودعْ شيئًا سمعت بهِ _________________________
في طلعةِ البدر ما يغنيكَ عن زحلِ _________________________
قال أرسطو: قد يفسد العضو لمصلحة الأعضاء.
قال المتنبي:
لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبهُ _________________________
وربما صحَّت الأجسام بالعللِ _________________________
قال أرسطو: مباينة المتكلف المطبوع كمباينة الحق الباطل.
قال المتنبي:
لأن حلمك حلمٌ لا تكلَّفهُ _________________________
ليس التكحل بالعينين كالكحلِ _________________________
قال أرسطو: علل الأفهام أشدُّ من علل الأجسام.
قال المتنبي:
يهون علينا أن تُصاب جسومنا _________________________
وتسلم أعراضٌ لنا وعقولُ _________________________
قال أرسطو: مَن تخلَّى عن الظلم بظاهر أمره وعنت جوارحه وكان مساكنًا بحواسه فهو ظالم. قال المتنبي:
وإطراقُ طرف العين ليس بنافعٍ _________________________
إذا كان طرف القلب ليس بمطرقِ _________________________
قال أرسطو: من يجعل الفكر في موضع البديهة فقد أضرَّ بخاطره وكذلك مَن جعل البديهة موضع الفكر.
قال المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى _________________________
مضرّ كوضع السيف في موضع الندى _________________________
قال أرسطو: إذا لم تنصرف عن النفس شهواتها ومرادها، فحياتها موت ووجودها عدم . قال المتنبي:
ذلَّ مَن يغبطُ الذليل بعيشٍ _________________________
ربَّ عيشٍ أخفّ منه الحمامُ _________________________
قال أرسطو: الفرق بين الحلم والعجز أن الحلم لا يكون إلا عن قدرةٍ والعجز لا يكون إلا عن ضعفٍ فلا يسمى العاجز حليمًا وهو عاجز.
قال المتنبي:
كل حلمٍ أتى بغير اقتدارٍ _________________________
حجة تلتجئ إليها اللئامُ _________________________
قال أرسطو: النفس الذليلة لا تجد ألم الهوان، والنفس الكريمة ترى الأشياء بطبعها.
قال المتنبي:
مَن يهنَ يسهل الهوان عليه _________________________
ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ _________________________
قال أرسطو: الجاهل لا يحلو عنده طعم العلم بل يجد له ثقلاً كما تنقل على المريض الأدوية النافعة ويخلو له في فمه غير طعمها.
قال المتنبي:
ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريض _________________________
يجد مرًّا به الماء الزُلالا _________________________
قال أرسطو: ليس جمال ظاهر الإنسان مما يستدلُ به على حسن فعله وفضله.
قال المتنبي:
لا يعجبنَّ مصونًا حسن بزَّته _________________________
وهل يروق دفينًا جودة الكفنِ _________________________
قال أرسطو: مَن نظر بعين العقل ورأى عواقب الأمور قبل مواردها لم يجزع لحلولها.
قال المتنبي:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا _________________________
فلما دهتني لم تزدني بها علمًا _________________________
قال أرسطو، لا برح الفضل بترك الذمّ ثم التناهي في المدح.
قال المتنبي:
ومني استعاد الناس كل غريبةٍ _________________________
فجازوا بترك الذم إن لم يكن حمدُ _________________________
قال أرسطو، مَن لم يرفع قدره عن قدر الجاهل، رفع الجاهل قدره عليه.
قال المتنبي:
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقصٍ _________________________
على هبةٍ في مَن له الشكرُ _________________________
قال أرسطو، مَن أفنى مدته في جمع المال خوف العدم فقد أسلم نفسه إلى العدم.
قال المتنبي:
ومن ينفق الساعات في جمع مالهِ _________________________
مخافة فقرٍ فالذي فعل الفقرُ _________________________
قال أرسطو، الذي لا يعلم بعلّتهِ لا يصل إلى برئهِ.
قال المتنبي:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهلهُ _________________________
ويجهل علمي أنه بيَ جاهلُ _________________________
قال أرسطو، حلول الفناء في عظيم الأمور كحلوله في صغيرها.
قال المتنبي:
فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ _________________________
كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ _________________________
قال أرسطو، العاقل لا يساكن شهوة الطبع لعلمهِ بزوالها، والجاهل يظنّ أنها باقية وهو باقٍ، فذاك يشقى بعقله وهذا ينعم بجهله.
قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله _________________________
وأخو الجهالة بالشقاوة ينعمُ _________________________
قال أرسطو، وقد رأى غلامًا حسن الوجه فاستنطقه فلم يجد عنده علمًا فقال، نعم البيت لو كان فيه ساكن
قال المتنبي:
وما الحسن في وجه الفتى شرفًا له _________________________
إذا لم يكن في فعله والخلائقِ _________________________
قال أرسطو، الكلال والملال يتعاقبان الأجسام لضعف الجسم لا لضعف الحسّ.
قال المتنبي:
وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملَّ _________________________
حياةً وإنما الضعف ملاَّ _________________________
قال أرسطو، الجبن ذلة كامنة في نفس الجبان فإذا خلا بنفسه أَظهر شجاعة.
قال المتنبي:
وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ _________________________
طلب الطعن وحدهُ والنزالا _________________________
قال أرسطو، الغلبة بطبع الحياة، والمسالمة بطبع الموت، والنفس لا تحبّ أن تموت فلذلك تحبّ أخذ الأشياء بالغلبة.
قال المتنبي:
من أطاق التماس شيء غلابا _________________________
واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا _________________________
قال أرسطو، الإنسان شبح روحاني ذو عقل غريزي لا ما تراه العيون من ظاهر الصورة.
قال المتنبي:
لولا العقول لكان أدنى ضيغمٍ _________________________
أدنى إلى شرفٍ من الإنسانِ _________________________
قال أرسطو، الظلم من طبع النفس إنما يصدُّها عن ذلك خلتان، خلة دينية وخلة دنيوية سياسية، خوف الانتقام.
قال المتنبي:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد _________________________
ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ _________________________
قال أرسطو، ثلثة إن لم تظلمهم ظلموك، ولدكَ وعبدكَ وزوجتك، فسبب صلاحهم التعدَّي عليهم
قال المتنبي:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونهُ _________________________
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالمِ _________________________
قال أرسطو، النفوس المجوهرة تشرك الشهوات البهيمية طبعًا لا خوفًا.
قال المتنبي:
وترى المروَّة والفتوة والأبو _________________________
ة فيَّ كلُّ مليحةٍ ضراتها _________________________
قال أرسطو، من أثرى من العدم افتقر من الكرم.
قال المتنبي:
وربَّ مثرٍ فقيرًا من مروَّته _________________________
لم يثرِ منها كما أثرى من العدمِ _________________________
قال أرسطو، أتعب الناس من قصرت مقدرته واتسعت مروءَته.
قال المتنبي:
وأتعب خلق الله من زاد همه _________________________
وقصر عمَّا تشتهي النفس وجده _________________________
قال أرسطو، أَعظم الناس محنةً من قلَّ ماله وعظم مجده، ولا مال لمن كثر ماله وقلَّ مجده.
قال المتنبي:
فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ مالهُ _________________________
ولا مال في الدنيا لمنْ قلَّ مجدُ _________________________
قال أرسطو، أعجز العجز من قدر على أن يزيل العجز عن نفسهِ فلم يفعل.
قال المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس شيئًا _________________________
كنقص القادرين على التمام _________________________
قال أرسطو، إذا كان سقم النفس بالجهل كان الموت شفاءَها.
قال المتنبي:
إذا استشفيت من داءٍ بداء _________________________
فأَقتل ما أعلَّك ما شفاكا _________________________
قال أرسطو، اللطايف سماوية والكتايف أرضية، وكل عنصر هو عائد إلى عنصره الأول.
قال المتنبي:
فهذه الأرواح من جوّه _________________________
وهذه الأجساد من تربهِ _________________________
قال أرسطو، أعظم ما على النفوس إعظام ذوي الدناءَة.
قال المتنبي:
فإني رأيت الضر أحسن منظرًا _________________________
وأهون من مرءٍ صغير به كبرُ _________________________
قال أرسطو، آخر إفراط المتوقي أول موارد الحزن.
قال المتنبي:
وغاية المفرط في سلمهِ _________________________
كغاية المفرط في حربهِ
00000000000000000000000000000000000000000000000000 000000
((سيرة المتنبي))
بقلم
((سلمان هادي الطّعمة))
في فجر حياتي الأدبية شغفت بأبي محسَّد، وكان هذا الشغف يكبر معي.. لذا كانت هذه الدراسة استقطارا لذلك الشغف المتنامي.
كفى العربية فخرا شامخا وعزا ساميا أن تنجب هذه الشخصية الفريدة في فكرنا العربي. ولا أحسب شاعرا عربيا كان يمكن أن يكون في هذا العصر أبعد صرخة وأكثر حماسة وأورى زندا من هذا الشاعر. وقد لا أعدو الصواب إذا قلت أن المتنبي أغزر الشعراء فضلا وأوسعهم شهرة وأعلاهم منزلة، فقد رفع شأن الشعر العربي وأحله مرتبة لم تكن له من قبل، وحمل الراية عاليا، وفتح للشعراء طرائق الخلد، وسن لهم سنن المجد. وبذلك تبوأ مكانة رفيعة ومنزلة سامية، مما دفعنا إلى الإعجاب بعبقريته والافتتان بشعره.
ولد الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي في محلة كندة بالكوفة . وقد أجمع الرواة أن تاريخ مولده هو سنة 303 هـ. ذكره ابن خلكان في تاريخه فقال: أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور، وقيل هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار والله أعلم . وقال عنه ابن رشيق في كتابه العمدة: إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس ذلك هو أحمد بن الحسين الملقب بأبي الطيب المتنبي) .
ومهما يكن فهو عربي الأصل، نشأ في أسرة فقيرة، ويعرف أبوه بعبدان السقاء كان عمله سقاية الماء في محلة كندة، وقد أرسله حين درج إلى مدارس العلويين في الكوفة ليتعلم فيها القراءة والكتابة مع فريق من أولاد أشراف العلويين. وأخذ يختلف على دكاكين الوراقين لمطالعة بعض الكتب والكراريس، وكانت هذه الحوانيت منتدى للأدب، يقصدها العلماء والأدباء والباحثون، فلا بد أنه كان يلقى فيها كثيرا منهم ويتصل بهم. وطبيعي أن تلك الحوانيت هي التي مهدت للمتنبي ثقافته الأولى، ساعده على ذلك ذكاؤه الحاد، ويروى عنه أنه كان قوي الذاكرة، سريع الحفظ. وأنه ذهب إلى البادية وأقام فيها سنتين لتقويم لسانه وتعلم اللغة. ويبدو أنه سافر لهذه الغاية عندما أغار القرامطة على الكوفة سنة 312هـ، وغادرها ثانية سنة 319هـ مع كثير من أهلها لعودة القرامطة إليها بعد انتصارهم على جيوش الخلافة. ويحدثنا الرواة أنه خرج إلى بادية بني كلب. فأقام بينهم مدة ينشدهم من شعره ويأخذ عنهم اللغة، فعظم شأنه بينهم، حتى وشى بعضهم إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الإخشيدية بأن أبا الطيب ادعى النبوة في بني كلب وتبعه منهم خلق كثير، ويخشى على ملك الشام منه، فخرج لؤلؤ إلى بني كلب وحاربهم وقبض على المتنبي وسجنه طويلا ثم استتابه وأطلقه . ونحن لا ندري على وجه التحقيق لم ذهب المتنبي إلى البادية، هل ذهب إلى هناك ليتقن اللغة، أم أن أباه اضطر إلى الهرب من الكوفة واللجوء إلى الصحراء نتيجة للحوادث السياسية والاضطرابات التي كانت تتعرض الكوفة آنذاك!! فنحن نعلم أن الكوفة كانت عرضة لهجمات القرامطة الذين أقاموا لهم حكومة في البحرين، وكان النزاع بين رئيسهم أبي طاهر وبين الخلافة العباسية شديدا، فقد هاجم أبو طاهر البصرة سنة 311هـ، وقطع طريق الحج وسلب الحجاج العائدين من مكة سنة 312هـ.
وفي السنة نفسها قطع طريق الحجاج العراقيين الذاهبين إلى مكة، واغتنم فرصة الذعر الذي استولى على العراقيين، فدخل الكوفة ونهبها وضربها ثم عاد إلى البحرين. فلعل هجرة والد أبي الطيب إلى البادية كان نتيجة لهذا الذعر الذي لحق الكوفيين. ومهما يكن من سبب هذه الهجرة إلى البادية، فإننا نعلم أن والده استقر به في بادية السماوة عند بني الصابي، وهم فرع من جشم بن همدان أخواله، ومكث سنتين في بادية السماوة، ويبدو أن القرمطية اجتذبت في بدء ظهورها أنصارا لها من أوساط البدو المتحمسين. ولعل تلك الدعوة تناولت القبائل كافة ، مما حمل الدكتور ر. بلاشير على الاعتقاد بأنه لقي بعض القرامطة فتأثر بهم، فإن لم يتأثر بالدعوة القرمطية فليس بمستبعد أن يكون أصابه الاضطراب من جراء المأساة التي قلبت أوضاع الخلافة ويتابعه في هذا الرأي الدكتور طه حسين إذ قال: إن المتنبي قد أصبح قرمطيا من أثر بقائه في البادية، إذ أن القرامطة منذ ظهروا كانوا يجدون في بادية الشام حماسة للدعوة، فهو تأثر بهم أو أنه أصبح داعية من دعاتهم، وأنه طمع في أن يستهوي (بدر بن عمار أمير طبريا) إلى قرمطيته القديمة
عاد المتنبي إلى الكوفة ، ورجح بعض الباحثين أن ذلك كان سنة 315هـ، واستقر في الكوفة ، ولا نعلم على وجه التحقيق كيف قضى المتنبي حياته في الكوفة بعد عودته إليها، وكل الذي نعلمه أنه اتصل بشخص يعرف أبو الفضل الكوفي، وأبو الفضل هذا رجل قد ثقف الفلسفة. يقول صاحب الخزانة: إن أبا الطيب وقع في صغره إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما ضل . ولا ندري إذا كان أبو الطيب قد درس عليه الفلسفة حقا! وكل الذي نعلمه أن صاحب الوساطة يذكر لنا شعره الذي تأثر فيه بالفلسفة اليونانية، فهل كان ذلك لأنه درس الفلسفة، أو كان من أثر هذه الآراء العامة التي كانت شائعة بين المثقفين في ذلك العصر! ونحن أميل إلى الاعتقاد الثاني، فدراسة الفلسفة لا بد أن تكون قد تركت لها آثارا على شعره. وقد مدح أبو الطيب أبا الفضل بقصيدة غريبة فيها أبيات تلفت النظر أنها في الحقيقة تحوي آراء هي التي حملت بعض الباحثين على القول باعتناق المتنبي لمذهب القرامطة. ولكن ناشر ديوان المتنبي يقول عنها إن المتنبي إنما قالها ليمتحن عقب أبي الفضل، وكلا التفسيرين يجانبان الواقع، فنحن نعتقد أن المتنبي إنما ذكر هذه الصفات وهذه الآراء ليفخم بممدوحه، وأن المتنبي لم ير بأسا في مدح من يعتنق هذه المبادئ فيقول مثلا:
يا أيها الملك المصفى جوهرًا _________________________
من ذات ذي الملكوت أسمى من سما _________________________
نور تظافر فيك لاهوتيّه _________________________
فتكاد تعلم علم ما لم يعلما _________________________
ويهم فيك إذا نطقت فصاحة _________________________
من كل عضو منك أن يتكلما _________________________
أنا مبصر وأظن أني نائم _________________________
من كان يحلم بالإله فأحلما _________________________
كبر العيان عليَّ حتى أنه _________________________
صار اليقين من العيان توهما _________________________
ولكن هذا الكلام، وإن كان صريحا في ذكر الحلول، فلا يدل على أن المتنبي كان قرمطيا، وربما كانت هذه عقيدة ممدوحه أبي الفضل فذكرها تقربا إليه، وهو على كل حال، يدل على عدم اهتمام المتنبي بالتمسك بروح الدين. وبعد رجوعه من البادية إلي الكوفة ، لم يطل مكثه بها، فتركها إلى بغداد ، ولم يبق في بغداد طويلا، فخرج عنها إلى الشام. يقول طه حسين: إن المتنبي إنما ترك الكوفة بسبب عقيدته القرمطية خشية على نفسه من يؤاخذ، وأنه خرج إلى الشام بسبب هذه العقيدة ليتصل بالدعاة هناك ويعمل على نشر الفكرة .
((نشأته وحياتة))
المتنبي هو أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الملقَّب بأبي الطيّب ووالده الحسين يُعرف بعبدان السقاء. وكان مولد المتنبي بالكوفة في محلة يقال لها كِندة سنة ثلاثٍ وثلاث مئة هجرية. ثم صحب الأعراب في البادية وجاء بعد سنتين بدويًا قحًا. وكان محبًا للعلم والعلماء ذا قوةٍ حافظة فقد رأى يومًا رجلاً يعرض كتابًا بستين صفحة فأخذه منه ونظر فيه طويلاً وأعاده لصاحبه وأقبل يتلوه حتى آخره. وإنما لُقّب بالمتنبي لأنه ادَّعى النبوَّة في بادية السماوة وهي أرضٌ بحيال الكوفة مما يلي الشام. وهذا بعض كلامه الذي كان يزعم أنه قرآن أُنزل عليه:
"والنجم السيَّار والفلك الدوَّار والليل والنهار إنَّ الكافر لفي أخطار. امضِ عَلَى سننَك واقف أَثرَ مَن كان قبلك من المرسلين فإن الله قامعٌ بكَ زيغَ مَن ألحدَ في الدين وضلَّ عن السبيل".
ولما فشا أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيد فاعتقله وجعل في رجله وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف. فكتب إليه المتنبي من السجن يستعطفه بالقصيدة التي مطلعها:
أيا خدَّد الله وردَ الخدود وقدَّ قدود الحسان القدود
فعفى عنه وأطلقه. ولم يزل بعد خروجه من الاعتقال في خمول وضعف حال حتى اتصل بأبي العشائر الحسن بن الحسين بن حمدان العدوي وكان بأنطاكية فمدحه بعدَّة قصائد. ولما قدم الأمير سيف الدولة أبو الحسن عليَّ بن عبد الله بن حمدان العدَوي إلى أنطاكية قدَّم أبو العشائر المتنبي إليه وأثنى عنده عليه وعرَّفه منزلته من الشعر والآداب.
كان سيف الدولة ملكًا عَلَى حلب انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي سنة 333 وكان أديبًا شاعرًا مجيدًا شديد الاهتزاز لجيّد الشعر. قيل لم يجتمع بباب أحد الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من الشعراء وله معهم أخبار كثيرة. وكانت ولادته سنة 303 وهي سنة ولادة المتنبي، ووفاته سنة 356 بعد مقتل المتنبي بسنتين.
فاشترط المتنبي عَلَى سيف الدولة أول اتصاله به أنه إذا أنشد مديحه لا ينشده إلا وهو قاعدٌ وأنه لا يكلَّف بتقبيل الأرض بين يديه. وكان ذلك سنة 337، وصحب سيف الدولة في غزواته وامتدحه وحسن موقعه عنده فقرَّبه إليه وأحبه وأجازه الجوائز السنيَّة وسلمَّه إلى الروَّاض فعلموه الفروسية والطراد والمشافقة.
قال عبد المحسن بن لوجك عن أبيه: كنت بحضرة سيف الدولة وأبي الطيب اللغوي وأبي الطيب المتنبي وأبي عبد الله بن خالويه النحوي وقد جرت مسئلة في اللغة تناقش فيها ابن خالويه وأبو الطيب اللغوي فأضعف المتنبي قول ابن خالويه فأخرج من كمه مفتاحًا لكم به المتنبي فقال هذا: اسكت ويحك فإنك أعجمي وأصلك خوزي فمالك وللعربية فضرب وجه المتنبي بالمفتاح فأسال دمه عَلَى وجهه وثيابه. وغضب المتنبي إذ لم ينتصر له سيف الدولة لا قولاً ولا فعلاً وكان سبب فراقه سيف الدولة سنة 346. قال الدهان في المآخذ النكدية من المعاني الطائية إن أبا فراس الحمداني قال يومئذٍ لسيف الدولة إن هذا المتشدّق كثير الإدلال عليك وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار فلو فرَّقت مائتي دينار عَلَى عشرين شاعرًا لأتوك بأحسن من شعره. فتأثر سيف الدولة بكلام أبي فراس وعمل به. وكان المتنبي غائبًا وبلغته القصة فدخل عَلَى سيف الدولة وقال القصيدة التي مطلعها: واحرّ قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ
حكى عليّ بن حمزة البصروي قال: بلوتُ من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة وتلك أنه ما كذب ولا زنى ولا لاط. وبلوت منه ثلاث خلال ذميمة وتلك أنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن. وقال ابن فورجة : كان المتنبي رجلاً داهية مرّ النفس شجاعًا حافظًا للآداب عارفًا بأخلاق الملوك ولم يكن فيه ما يشينه ويسقطه إلا بخله وشرهه علَى المال.
وأحسن قصائد أبي الطيب هي التي في سيف الدولة. وتراجع شعره بعد مفارقته وسئل عن ذلك فقال: قد تجوَّزت في قولي وأعفيت طبي واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان.
قال أبو عثمان بن جني: كنتُ قرأتُ ديوان المتنبي عليه فلما وصلتُ إلى قوله في مدح كافور : أُغالبُ فيك الشوقَ والشوقُ أغلب وأعجبُ من ذا الهجر والوصلُ أعجبُ
قلت له يعزُّ عليَّ كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة. فقال حذرناه وأنذرناه وما نفع فيه الإنذار، ألست القائل فيه: أخا الجود أعط الناس ما أنت مالكٌ: فهو الذي أعطاني إلى كافور بسوء تدبيره وقلة تمييزه.
ولما عزم أبو الطيب عَلَى الرحيل من حلب أتى دمشق وكان فيها يهودي من أهل تدمر يُعرف بابن ملك من قِبل كافور الإخشيدي ملك مصر فالتمس من المتنبي أن يمدحه فثقل عليه فغضب ابن ملك. وطلب كافور المتنبي من ابن ملك فكتب هذا إليه أَن أبا الطيب قال: لم أقصد العبد وإن دخلتُ مصر فما قصدي إلا ابن سِيده. وضاقت دمشق بالمتنبي فصار إلى الرملة فحمل إليه أميرها ابن طغج هدايا نفيسة وخلع عليه وحمله عَلَى فرسٍ بموكب كبير وقلده سيفًا محلَّى. وكان كافور يقول لأصحابه أترونه يبلغ الرملة ولا يأتينا. ثم كتب يطلبه من الحسين أمير الرملة فسيَّره إليه. فلما قدم أبو الطيّب أمر له كافور بمنزل ووكل به جماعة وأكرم وفادته وخلع عليه وطالبه بمدحه. فقال المتنبي قصيدته المشهورة التي استهلالها: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا
المتنبي - رحلته إلى مصر بدعوة كافور
كان كافور عبدًا أسود خصيًا مثقوب الشفة السفلى بطينًا قبيح القدمين. وكان لقومٍ من أهل مصر يُعرفون ببني العباس يستخدمونه في حوائج السوق. وكان مولاه يربط في رأسه حبلاً إذا أراد النوم فإذا أراد منه حاجة يجذبه بالحبل لأنه لم يكن ينتبه بالصياح. وكان غلمان ابن طغج يصفعونه في الأسواق كلما رأوه فيضحك فقالوا: إن هذا الأسود خفيف الروح. وكلّم أبو بكر محمد بن طغج صاحبه في بيعه فوهبه له فأقامه عَلَى وظيفة الخدمة. ولما توفي سيده أبو بكر كان له ولدٌ صغير فتقيَّد الأسود بخدمته وأخذت البيعة لولده فتفرَّد الأسود بخدمته وخدمة أُمه فقرَّبَ من شاءَ ثم ملك الأمر على ابن سيده وأمر أن لا يكلمه أحدٌ من مماليك أبيه ومن كلمه أَوقع به. فلما كبر ابن سيده وتبيَّن ما هو فيه جعل يبوح بما في نفسه في بعض الأوقات عَلَى الشراب ففزع الأسود منه وسقاه سمًا فمات وخلَت مصر له. وحكم مصر ثلاثا وعشرين سنة. فكان المتنبي يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفَّان وفي وسطه سيفٌ ومنطقة. وسأله يومًا أن يوليه صيدا من بلاد الشام أو غيرها من بلاد الصعيد فقال له كافور : "أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سمت نفسك إلى النبوة فإن أصبت ولايةً وصار لك أتباعٌ فمن يطيقك؟".
ثم وقعت الوحشة بينهما ووضع كافور العيون والأرصاد مخافة أن يهرب وأحسَّ المتنبي بالشرّ واعتزم الرحيل فخرج ودفن الرماح في الرمال وحمل الماء على الجمال لعشر ليالٍ وتزوَّد لعشرين. وقال في يوم عرَفة سنة 350 قبل رحيله من مصر بيوم قصيدته المأثورة:
عيد بأية حالٍ عدتَ يا عيد _________________________
بما مضى أم لأَمرٍ فيك تجديدُ _________________________
وفي العيد سار أبو الطيب من مصر هاربًا وأخفى طريقه فلم يوجد له أثر حتى دخل الكوفة في شهر ربيع الأول سنة 351 ونظم مقصورته التي أولها:
ألا كلُّ ماشيةِ الخيزلى _________________________
فدى كلّ ماشية الهيذبى _________________________
وصف بها مسيره عن مصر وذكر المنازل التي قطعها. ثم توجَّه إلى بغداد .
المتنبي في بغداد
قال أبو عليّ الحاتمي: كان أبو الطيّب عند وروده مدينة السلام قد التحف برداء الكبر والعظمة يخيل له أنَّ العلم مقصورٌ عليه وأنَّ الشعر لا يغترف عذبه غيره. وثقلت وطأته عَلَى أهل الأدب وطأطأ كثيرٌ منهم له رأسه وخفض له جناحه. وساء معز الدولة أن يرد على حضرته رجلٌ لم يكن بمملكته أحد يماثله فيما هو فيه فيبدي لهم عواره ويهتك آثاره. فتوخيت أن يجمعنا مجلس يجري كلامنا في مضمار ليعرف السابق من المسبوق. فلما لم يتفق ذلك قصدتُ مجلسه فوافق مسيري إليه حضور جماعة يقرءون عليه فحين استأذن لي نهض من مجلسه لمخدعٍ وخرج إليَّ يكلمني فقلت يا هذا يختلج في صدري أشياء من شعرك أُريد أن أسأل عنها وأُراجعك فيها. قال وما هي. قلت أخبرني عن قولك:
إذا كان بعض الناس سيفًا لدولةٍ
ففي الناس بوقات لها وطبولُ
وقولك :
في فيلقٍ من حديدٍ لو قذفت بهِ
صرف الزمان لما دارت دوائره
فهو من قول الناجم. أما قولك:
الناس ما لم يروك أشباهُ
والدهر لفظٌ وأنتَ معناهُ
فهو من قول منصور بن بسَّام. فقال أين أنتَ من قولي:
كأنَّ الهام في الهيجا عيـون
وقد طبعت سيوفك من رقـادِ
وقد صغت الأسنَّة من همومٍ
فما يخطرنَ إلاَّ في فـــؤادِ
أما يكفيك إحساني في هذه؟ قلتُ ما أعرف لك إحسانًا في جميع ما ذكرت وإنما أنت سارق متبع وآخذ مقصر. فأما قولك: كأنَّ الهام... فمنقولٌ من قول النميري منصور. وأما قولك: في فيلق... فمنقول من قول الناجم وأبي تمام ومنصور بن بسَّام وأبي نواس والنابغة الذين أخذوا من عبد الله بن داره ومن غيره. فقال أبو الطيّب ألستُ القائل:
ذي المعالي فليعلونْ مَن تعالى
هكذا هكذا وإلاَّ فلا لا
شرفٌ ينطح النجوم بروقيــه
وعزٌ يقلقلُ الأجبــالا
قلت أخذتَ البيت الأول من بكر بن النطاح والثاني من أبي تمام وأفسدته إذ جعلت لشرف الرجل قرنًا. قال هي استعارة. قلت استعارة خبيثة. فبهره ما أوردته وأمسك عبارته. وكنتُ بلغت شيئًا كان في صدري وعلمتُ أن الزيادة على الحدّ الذي انتهيتُ إليه ضربٌ من الأسر والبغي ورأيت له حق التقدُّم في صناعته فطأطأت له كتفي ونهضت فنهض لي مشيعًا إلى باب الدار وتأكدت بيني وبينه الصحبة وصرتُ أتردد إليه أحيانًا.
وكان المتنبي يتجاهل من شعر أبي تمام لكنه قال أخيرًا: "أيجوز للأديب أن يعرف شعر أبي تمام وهو أستاذ كل من قال الشعر بعده؟". وكان من المكثرين من نقل اللغة والمطلعين على غريبها. ولما استقرَّ في دار السلام وترفَّع عن مدح الوزير المهلبي شقَّ ذلك على المهبلي فأغرى به شعراء العراق وتباروا في هجائه فلم يجبهم ولم يفكر فيهم. فقيل له في ذلك فقال: إني فرغتُ من إجابتهم بقولي لمن هو أرفع طبقة في الشعر منهم.
أرى المتشاعرين غروا بذمّي
ومن ذا يحمد الداء العضالا
ومَن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريـضٍ
يجد مرًّا به المـاء الـزلالا
سفره إلى شيراز ببلاد فارس
ثم رحل المتنبي عن بغداد متوجهًا إلى حضرة العميد أبي الفضل محمد بن الحسين وزير ركن الدولة بأرجان سنة 354 فحسن موقعه عنده وأنشده القصيدة التي استهلها بقوله:
بادٍ هواكَ صبرتَ أم لم تصبرا
وبكاك إن لم يجرِ دمعكَ أو جرى
وسار أبو الطيب وما ودّع ابن العميد وقال عند مسيره: نسيت وما أنسى عتابًا على الصدّ ولا خفرًا ازادت به خمرة الخدِّ
قاصدًا أبا شجاع عضدالدولة بشيراز فأنشده القصيدة: آوهِ بديلٌ من قولتي وآها لمن نأت والبديل ذكراها
ولما نجحت سفرته وربحت تجارته بحضرة عضد الدولة ووصل إليه من صلاتهِ أكثر من مائتي ألف درهم استأذنه في المسير إلى شيراز ثم يعود إليه فأذن له وأمر بأن تخلع عليه الحلل الخاصة وتُعاد صلته بالمال الكثير فامتثل وأنشده القصيدة التي هي آخر شعره سنة 354 وقد ضمنها قولاً كأنه ينعي به نفسه، ومطلعها: فِدىً لكَ من يقصّر عن مداكا فلا مَلكٌ إذن إلاَّ فداكا
وقد أكثر أبو الطيّب من التشاؤم على نفسه في هذه القصيدة بما لم يقع له في غيرها وما لم يخطر على قلبه في جميع عزائمه وأسفاره، وذلك أنه بعد ارتحاله من شيراز قُتل في الطريق. وهذا شيءٌ مما روي عن مقتله:
مقتل المتنبي
قال الخالديان: كتبنا إلى أبي النصر محمد الجلّي نسأله عما وقع لأبي الطيب المتنبي بعد مفارقته عضد الدولة وكيف كان قتله. وأبو النصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية. فأجابنا عن كتابنا جوابًا طويلاً يقول في أثنائه أما ما سألتما من خبر مقتل أبي الطيّب المتنبي فأنا أسوقه لكما وأشرحه شرحًا بينًا. اعلما أن مسيره كان من واسط يوم السبت لعشر ليالٍ بقيت من شهر رمضان سنة 354 بقريةٍ تقرب من دير العاقول في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان. والذي تولى قتله وقتل ابنه محسَّد وغلامه رجلٌ من بني أسد يُقال له فاتك بن أبي جهل بن فراس بن شداد الأسدي. وكان من قول فاتك لما قتله: "قبحًا لهذه اللحية يا قذَّاف المحصنات". وذلك أن فاتكًا هذا هو خال ضبَّة بن يزيد العيني الذي هجاه أبو الطيّب بقوله:
ما أنصف القوم ضبَّه _________________________
وأمه الطُرُطُبَّه _________________________
فيقال إن فاتكًا داخلته الحمية لما سمع ذكر أخته أم ضبَّة بالقبح في هذه القصيدة فكان ذلك سبب قتل أبي الطيب وابنه وأصحابه وذهاب ماله.
وأما شرح الخبر فإن فاتكًا هذا صديقٌ لي وهو كما سمّى فاتكٌ لسفكه الدماء وإقدامه على الأهوال. فلما سمع القصيدة التي هجا بها ضبَّة اشتدّ غضبه ورجع على ضبّة باللوم وقال له كان يجب أن لا تجعل لشاعرٍ عليك سبيلاً وهو يضمر السوء على أبي الطيب ولا يتظاهر به. واتصل به انصراف أبي الطيب من بلاد فارس وتوجهه إلى العراق وعلم أن اجتيازه بجبل دير العاقول فلم يكن ينزل عن فرسه ومعه جماعة من بني عمه يرون في المتنبي مثل رأيه فكانوا لا يزالون يتسمون أخباره من صادر ووارد. وكان كثيرًا ما ينزل عندي فقلت له يومًا وقد جاءني وهو يسأل قومًا مجتازين عن المتنبي أراك قد أكثرت السؤال عن هذا الرجل فماذا تريد منه إذا لقيته. فقال ما أريد إلاَّ الجميل وعذله على هجاء ضبَّة. فقلت هذا لا يليق بأخلاقك. فتضاحك ثم قال يا أبا نصر والله لئن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقعةٌ لأسفكنَّ دمه وامحقنَّ حياته إلا أن يُحال بيني وبينه بما لا أستطيع دفعه. فقلتُ له كفَّ عن هذا وارجع إلى الله فإن الرجل شهير الاسم بعيد الصيت ولا يحسن منك قتله على شعر قاله وقد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام فما سمعنا بشاعرٍ قُتل بهجائه. وقد قال الشاعر:
هجوت زهيرًا ثم إني مدحتهُ _________________________
وما زالت الأشراف تُهجى وتُمدحُ _________________________
فقال يفعل الله ما يشاء وانصرف. وما مضى بعد هذا إلا أيامٌ قليلة حتى وافاني المتنبي ومعه بغال موقرة من الذهب والفضة والطيب والملابس والتجملات النفيسة والكتب الثمينة والأدوات الكثيرة، لأنه كان إذا سافر لا يترك في منزله درهمًا ولا شيئًا يساويه. وكان أكثر إشفاقه على دفاتره لأنه كان قد انتخبها وأحكمها قراءة وتصحيحًا. فتلقيته وأنزلته في داري وسألته عن أخباره وعمن لقي في تلك السفرة فعرّفني من ذلك ما سررت بهِ له وأقبل يصف ابن العميد وفضله وكرمه وعلمه، وكرم عضد الدولة ورغبته في الأدب وميله إلى أهله. فلما أمسينا قلت له يا أبا الطيّب علامَ أنتَ مجمعٌ؟ قال على أن أتخذ الليل مركبًا فإن السير فيه أخفّ عليَّ. قلت هذا هو الصواب رجاء أن يخفيه الليل ولا يصبح إلا وهو قد قطع بلدًا بعيدًا. وقلت له والرأي أن يكون معكَ من رجال هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة جماعةٌ يمشون بين يديك إلى بغداد فقطَّب وجهه وقال: فما تريد بذلك؟ قلتُ أريد أن تستأنس بهم في الطريق. فقال أنا والجُراز في عنقي فما لي حاجة إلى مؤنسٍ غيره. قلت الأمر كما تقول ولكن الرأي في الذي أشرت به عليك. فقال تلويحك ينبي عن تعريضٍ وتعريضك ينبي عن تصريحٍ فعرفني جلية الأمر. قلت إن هذا الجاهل فاتكًاالأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام وهو غير راضٍ عنك لأنك هجوت ابن أخته ضبَّة وقد تكلم بما يوجب الاحتراز والتيقظ ومعه أيضًا جماعة نحو العشرين من بني عمه. فقال غلام أبي الطيّب الصواب يا مولاي ما أشار به أبو النصر، خذ معك عشرين رجلاً يسيرون بين يديك إلى بغداد. فاغتاظ أبو الطيّب من غلامه غيظًا شديدًا وشتمه شتمًا قبيحًا وقال: والله لا أرضى أن يتحدَّث الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. فقلتُ يا هذا أنا أرسل قومًا من قِبلي في حاجة لي يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك. فقال والله لا فعلتُ شيئًا من هذا. ثم قال: يا أبا نصر أَبنجو الطير تخوّفني ومن عبيد العصا تخاف عليَّ؟ والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون لخمسٍ وقد نظروا الماء كبطون الحيَّات ما جسر لهم خفٌ ولا ظلفٌ أن يرده معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين. فقلتُ له قل إن شاء الله فقال هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيًا ولا تستجلب آتيًا. ثم ركب فكان آخر العهد به. ولما صحَّ عندي خبر قتله وجَّهت من دفنه ودفن ابنه وغلامه وذ هبت دماؤهم هدرًا. هذا هو الصحيح من خبره وقيل أن بني ضبة قتلوه بعد أن قاتل قتالاً شديدًا. وقد رثاه أبو القاسم مظفر بن عليّ الطبسي بقوله:
لا رعى الله صرفَ هذا الزمان
إذ دهانا بمثل ذاك اللســانِ _________________________
كان من نفسـه الكبــيرة في _________________________
جيشٍ ومن كبرياهُ في سلطان _________________________
ما رأى الناس ثانيَ المتـنبي _________________________
أيُّ ثانٍ يرى لبكر الزمــانِ _________________________
هو في شــعره نبيٌّ ولكن _________________________
ظهرت معجزاته في المعاني _________________________
ورثاه ثابت بن هارون البرقي النصراني بقصيدة يستثير بها عضد الدولة على فاتك الأسدي ومطلعها:
الدهرُ أخبث والليالي أنكد ُ _________________________
من أن تعيش بأهلها يا أحمد _________________________
ورثاه أبو الفتح عثمان بن جني بقصيدة يقول في أولها:
غاض القريضُ وأذوت نضرة الأدبِ _________________________
وصوَّحت بعد ريٍّ دولة الكتبِ _________________________
منها:
عمرتَ خدنَ المساعي غير مضطربٍ _________________________
ومتَّ كالنصل لم يدنس ولم يعبِ _________________________
اختلف علماء الأدب في شعر المتنبي وبيان منزلته فمنهم من رجحه على أبي تمام والبحتري ومنهم من رجحهما عليه وقد عني بشرح قصائده النقَّاد من المتقدمين والمتأخرين بينهم الجرجاني وابن جني وأبوالعلاء المعرّي وابن سِيده والمستوفي وإبرهيم الإقليلي وأبو بكر الخوارزمي والتلمساني والخطيب التبريزي والسيد البطليوسي وغيرهم حتى جاوز عدد شرَّاحه الأربعين مما لم يسبق لغيره من شعراء العربية. على أن أبلغ شرح وأوفاه هو الذي ابتدأه الشيخ ناصيف اليازجي وأتّمه ابنه الشيخ إبرهيم وأضاف إليه خاتمة وحيدة في بابها نقد فيها نقد العالم المدقق شعر المتنبي فرأينا أن نقتطف منها ما نورده فيما يلي:
رأي الشيخ إبراهيم اليازجي
الغرض من هذا الفصل الكلام على شعر المتنبي من حيث هو كلام تراد منه المطابقة بين المسموع والمفهوم فأذكر ما له من إجادة أو تقصير في استخدام الألفاظ من حيث هي قوالب للمعاني مع بيان الحدّ الذي جرى إليه في ذلك ومنزلة شعره من هذه الوجهة مما يرجع بالأكثر إلى أدب الكاتب وصناعة اللغوي ويكون مرمى لنظر علماء المعاني وأصحاب الترسل في صياغة اللفظ وتقديره على المعنى. وهذا مما ألمَّ به بعض المتكلمين على ديوانه. إلا أنهم على الغالب يشيرون إليه من جانب البحث ولم أجد مَن تفرَّغ لإشباع الكلام فيه مع أنه لم يشرح هذا الديوان شارح إلا خبط في دياجير لفظه وهام في تيه تعبيره. والعجب أن كثيرًا من خاصة الناس فضلاً عن عامتهم ممن يذهبون إلى تفضيل المتنبي على سائر الشعراء يرون أنه إنما نال هذه المنزلة وانفرد بالمزية على غيره لخفاء معانيه. وعندي إن ما كان كذلك حتى يحتاج في استخراج معناه إلى استباط القريحة وقدح زند الخاطر وحتى يكون المعنى من عند الشارح لا من عند الشاعر لا يستحق أن يسمى شعرًا. وما أرى ابن خلدون ومن على رأيه نفى الشاعرية عن المتنبي إلا لأبياته المبهمة التي ظهر عليها أثر الصنعة وتجاذبها التكلف والتعقد. وإذا جاوزت هذه النظائر من شعره إلى ما له من المعاني المبتكرة والقلائد المعدودة مما أجمع أهل العلم والشعر على تبريزه فيه واعترف أنداده وحسَّاده من الشعراء باختراعه له لم تكد تجد فيه خفاءً ولا إشكالاً بل هو في غالب حاله غاية الغايات في استحكام التأليف وبداهة التعبير وجودة السبك ووضوح المراد قد كسته الفصاحة زخرفها وألقى عليه البيان نوره فتسابقت معانيه إلى الأفهام وعلقت ألفاظه بالخواطر والأوهام واستوى في إنشاده الخاصي والعامي والتقى على استحسانه العالم والأمي. فمن غرره المشهورة قوله:
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي _________________________
فكان القتال قبل التـلاقي _________________________
وتكاد الظبى لما عــودَّوهـا _________________________
تنتضي نفسها إلى الأعناق _________________________
وقوله وهو من غريب تصرفه في المعاني:
لجيادٍ يدخلنَ في الحرب أعرآ _________________________
ءً ويخرجنَ من دم في جلال ِ _________________________
واستعار الحديد لونًا وألقى _________________________
لونـه في ذوائب الأطفــالِ _________________________
ومن بدائعه السائرة قوله:
رماني الدهر بالأرزاء حتى _________________________
فؤادي في غشاءٍ من نبــال _________________________
فصرت إذا أصابتني سهام _________________________
تكسرت النصالُ على النصال ِ _________________________
ومن حسنات قوله:
وقفتَ وما في الموتِ شكّ لواقفٍ _________________________
كأنك في جفن الردى وهو نائمُ _________________________
تمرُّ بك الأبطال كلمى هزيمـة _________________________
ووجهك وضَّاح وثغرك باسـمُ _________________________
ومنها:
تدوسُ بك الخيل الوكور على الذرى _________________________
وقد كثرت حول الوكور المطاعمُ _________________________
تظنُّ فراخ الفتــخ أنك زرتــها _________________________
بأماتها وهي العتاقُ الصـــلادمُ _________________________
إذا زلقت مشــيتها ببطــونها _________________________
كما تتمشى في الصعيد الأرائــمُ _________________________
وهذا القدر من قلائده كافٍ في مقام الاستشهاد ولو أردتُ استيفاءَ ما له من الحسنات والمعجزات لم يكفني ما هو دون المجلدات ومن أراد الاستقصاء في ذلك رددته إلى الديوان من غير أن أشير إلى موضع مخصوص ولا قصيدة بعينها لأن غالب شعره من هذا النسج الأنيق والوشي البديع. وبما ذكرَ ومثله اشتهر المتنبي وارتفع قدره وأُشير إلى موضعه في كل طبقة من الناس. وهذا هو المحفوظ من شعره الذي سارت به الركبان وتناقلته الرواة وعمرت به أندية الأدب ورنَّ صداه في محافل الخطب والذي به صار المتنبي ما تمثله الأذهان وتسمع به الآذان.
وكأني بالمتنبي مع طول باعه في صناعة الأدب وفضل علمه بمواقع الإساءة والإحسان كان قليل النقد لشعره حريصًا على كل ما يبدو من خاطره لا يسمح بشيءٍ منه مع طول قصائده واستقلالها بعد حذف كثيرٍ من أبياتها لو اقتصر منها على الجيّد لساد أمراء الشعر بلا مدافع ولم تجد في نقدة الكلام وجهابذة الأدب من يقدّم شاعرًا عليه".
رأي الشيخ إبراهيم اليازجي - تابع
ذهب بعض النقَّاد إلى أن الحكّم المأثورة التي أوردها المتنبي في قصائده قد استمدها من أقوال أرسطو. وعلَّلوا ذلك بأن المتنبي كان مطلعًا على فلسفة ذلك الحكيم اليوناني بما نقل منها إلى العربية. أما المرجَّح فهو أن اتفاق أبي الطيّب وأرسطو في جملة من الآراء والنظرات الفلسفية لم يكن إلا تواردًا اتفق مثله للكثيرين من عباقرة البشر.
وقد عني الإمام أبو عليّ محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي المعروف بالحاتمي بالموافقة بين أقوال أرسطو وأبيات المتنبي فكان في درسه باحثًا مدققًا وناقدًا منصفًا قال:
"لما رأيت أبا الطيب أحمد بن الحسين الشاعر اللغوي المعروف بالمتنبي قد أتى في شعره على أغراض فلسفية ومعاني منطقية أردت الموافقة بين ما توارد به في شعره مع أرسطو في حكمهِ لأنه إن كان ذلك عن فحص ونظر، فقد أغرق في درس العلوم وإن يكن ذلك منه على سبيل الاتفاق، فقد زاد على الفلاسفة في ذلك. وهو في الحالين على غاية الفضل وقد أوردت من جملة ما يستدل على فضله:
قال أرسطو: إذا كانت الشهوة فوق القدرة، كان هلاك النفس دون بلوغها.قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا _________________________
تعبت في مرادها الأجسامُ _________________________
قال أرسطو: النفوس أغراض لحوادث الزمان.
قال المتنبي:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا _________________________
فأهون ما يمرُّ به الوحولُ _________________________
قال أرسطو: الألفاظ المنطقية مضرَّة بذوي الجهل لنبوّ إحساسهم عن إدراكها.
قال المتنبي:
بذي الغباوة من إنشادها ضررٌ _________________________
كما تضرُّ رياح الوردِ بالجُعَلِ _________________________
قال أرسطو: الزمان ينشئ ويلاشي، فغنى كل قوم سبب لكون قوم آخرين.
قال المتنبي:
بذا قضتِ الأيامُ ما بينَ أهلها _________________________
مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ _________________________
قال أرسطو: باعتدال الأمزجة وتساوي الإحساس يفرق بين الأشياء وأضدادها.
قال المتنبي:
وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظره _________________________
إذا استوت عنده الأنوار والظَلمُ _________________________
قال أرسطو: من لم يردك لنفسه فهو النائي عنك وإن تباعدتَ أنت عنه.
قال المتنبي:
إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا _________________________
إن لا تفارقهم فالراحلون همُ _________________________
قال أرسطو: من علم أن الفناء مستولٍ على كونه هانت عليه المصائب.
قال المتنبي:
والهجرُ أقتلُ لي مما راقبهُ _________________________
أنا الغريقُ فما خوفي من البللِ _________________________
قال أرسطو: العيان شاهد لنفسه، والاختبار يدخل عليها الزيادة والنقصان.
قال المتنبي:
وخذ ما تراه ودعْ شيئًا سمعت بهِ _________________________
في طلعةِ البدر ما يغنيكَ عن زحلِ _________________________
قال أرسطو: قد يفسد العضو لمصلحة الأعضاء.
قال المتنبي:
لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبهُ _________________________
وربما صحَّت الأجسام بالعللِ _________________________
قال أرسطو: مباينة المتكلف المطبوع كمباينة الحق الباطل.
قال المتنبي:
لأن حلمك حلمٌ لا تكلَّفهُ _________________________
ليس التكحل بالعينين كالكحلِ _________________________
قال أرسطو: علل الأفهام أشدُّ من علل الأجسام.
قال المتنبي:
يهون علينا أن تُصاب جسومنا _________________________
وتسلم أعراضٌ لنا وعقولُ _________________________
قال أرسطو: مَن تخلَّى عن الظلم بظاهر أمره وعنت جوارحه وكان مساكنًا بحواسه فهو ظالم. قال المتنبي:
وإطراقُ طرف العين ليس بنافعٍ _________________________
إذا كان طرف القلب ليس بمطرقِ _________________________
قال أرسطو: من يجعل الفكر في موضع البديهة فقد أضرَّ بخاطره وكذلك مَن جعل البديهة موضع الفكر.
قال المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى _________________________
مضرّ كوضع السيف في موضع الندى _________________________
قال أرسطو: إذا لم تنصرف عن النفس شهواتها ومرادها، فحياتها موت ووجودها عدم . قال المتنبي:
ذلَّ مَن يغبطُ الذليل بعيشٍ _________________________
ربَّ عيشٍ أخفّ منه الحمامُ _________________________
قال أرسطو: الفرق بين الحلم والعجز أن الحلم لا يكون إلا عن قدرةٍ والعجز لا يكون إلا عن ضعفٍ فلا يسمى العاجز حليمًا وهو عاجز.
قال المتنبي:
كل حلمٍ أتى بغير اقتدارٍ _________________________
حجة تلتجئ إليها اللئامُ _________________________
قال أرسطو: النفس الذليلة لا تجد ألم الهوان، والنفس الكريمة ترى الأشياء بطبعها.
قال المتنبي:
مَن يهنَ يسهل الهوان عليه _________________________
ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ _________________________
قال أرسطو: الجاهل لا يحلو عنده طعم العلم بل يجد له ثقلاً كما تنقل على المريض الأدوية النافعة ويخلو له في فمه غير طعمها.
قال المتنبي:
ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريض _________________________
يجد مرًّا به الماء الزُلالا _________________________
قال أرسطو: ليس جمال ظاهر الإنسان مما يستدلُ به على حسن فعله وفضله.
قال المتنبي:
لا يعجبنَّ مصونًا حسن بزَّته _________________________
وهل يروق دفينًا جودة الكفنِ _________________________
قال أرسطو: مَن نظر بعين العقل ورأى عواقب الأمور قبل مواردها لم يجزع لحلولها.
قال المتنبي:
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا _________________________
فلما دهتني لم تزدني بها علمًا _________________________
قال أرسطو، لا برح الفضل بترك الذمّ ثم التناهي في المدح.
قال المتنبي:
ومني استعاد الناس كل غريبةٍ _________________________
فجازوا بترك الذم إن لم يكن حمدُ _________________________
قال أرسطو، مَن لم يرفع قدره عن قدر الجاهل، رفع الجاهل قدره عليه.
قال المتنبي:
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقصٍ _________________________
على هبةٍ في مَن له الشكرُ _________________________
قال أرسطو، مَن أفنى مدته في جمع المال خوف العدم فقد أسلم نفسه إلى العدم.
قال المتنبي:
ومن ينفق الساعات في جمع مالهِ _________________________
مخافة فقرٍ فالذي فعل الفقرُ _________________________
قال أرسطو، الذي لا يعلم بعلّتهِ لا يصل إلى برئهِ.
قال المتنبي:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهلهُ _________________________
ويجهل علمي أنه بيَ جاهلُ _________________________
قال أرسطو، حلول الفناء في عظيم الأمور كحلوله في صغيرها.
قال المتنبي:
فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ _________________________
كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ _________________________
قال أرسطو، العاقل لا يساكن شهوة الطبع لعلمهِ بزوالها، والجاهل يظنّ أنها باقية وهو باقٍ، فذاك يشقى بعقله وهذا ينعم بجهله.
قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله _________________________
وأخو الجهالة بالشقاوة ينعمُ _________________________
قال أرسطو، وقد رأى غلامًا حسن الوجه فاستنطقه فلم يجد عنده علمًا فقال، نعم البيت لو كان فيه ساكن
قال المتنبي:
وما الحسن في وجه الفتى شرفًا له _________________________
إذا لم يكن في فعله والخلائقِ _________________________
قال أرسطو، الكلال والملال يتعاقبان الأجسام لضعف الجسم لا لضعف الحسّ.
قال المتنبي:
وإذا الشيخ قال أفٍ فما ملَّ _________________________
حياةً وإنما الضعف ملاَّ _________________________
قال أرسطو، الجبن ذلة كامنة في نفس الجبان فإذا خلا بنفسه أَظهر شجاعة.
قال المتنبي:
وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ _________________________
طلب الطعن وحدهُ والنزالا _________________________
قال أرسطو، الغلبة بطبع الحياة، والمسالمة بطبع الموت، والنفس لا تحبّ أن تموت فلذلك تحبّ أخذ الأشياء بالغلبة.
قال المتنبي:
من أطاق التماس شيء غلابا _________________________
واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا _________________________
قال أرسطو، الإنسان شبح روحاني ذو عقل غريزي لا ما تراه العيون من ظاهر الصورة.
قال المتنبي:
لولا العقول لكان أدنى ضيغمٍ _________________________
أدنى إلى شرفٍ من الإنسانِ _________________________
قال أرسطو، الظلم من طبع النفس إنما يصدُّها عن ذلك خلتان، خلة دينية وخلة دنيوية سياسية، خوف الانتقام.
قال المتنبي:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد _________________________
ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلمُ _________________________
قال أرسطو، ثلثة إن لم تظلمهم ظلموك، ولدكَ وعبدكَ وزوجتك، فسبب صلاحهم التعدَّي عليهم
قال المتنبي:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونهُ _________________________
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالمِ _________________________
قال أرسطو، النفوس المجوهرة تشرك الشهوات البهيمية طبعًا لا خوفًا.
قال المتنبي:
وترى المروَّة والفتوة والأبو _________________________
ة فيَّ كلُّ مليحةٍ ضراتها _________________________
قال أرسطو، من أثرى من العدم افتقر من الكرم.
قال المتنبي:
وربَّ مثرٍ فقيرًا من مروَّته _________________________
لم يثرِ منها كما أثرى من العدمِ _________________________
قال أرسطو، أتعب الناس من قصرت مقدرته واتسعت مروءَته.
قال المتنبي:
وأتعب خلق الله من زاد همه _________________________
وقصر عمَّا تشتهي النفس وجده _________________________
قال أرسطو، أَعظم الناس محنةً من قلَّ ماله وعظم مجده، ولا مال لمن كثر ماله وقلَّ مجده.
قال المتنبي:
فلا مجد في الدنيا لمن قلَّ مالهُ _________________________
ولا مال في الدنيا لمنْ قلَّ مجدُ _________________________
قال أرسطو، أعجز العجز من قدر على أن يزيل العجز عن نفسهِ فلم يفعل.
قال المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس شيئًا _________________________
كنقص القادرين على التمام _________________________
قال أرسطو، إذا كان سقم النفس بالجهل كان الموت شفاءَها.
قال المتنبي:
إذا استشفيت من داءٍ بداء _________________________
فأَقتل ما أعلَّك ما شفاكا _________________________
قال أرسطو، اللطايف سماوية والكتايف أرضية، وكل عنصر هو عائد إلى عنصره الأول.
قال المتنبي:
فهذه الأرواح من جوّه _________________________
وهذه الأجساد من تربهِ _________________________
قال أرسطو، أعظم ما على النفوس إعظام ذوي الدناءَة.
قال المتنبي:
فإني رأيت الضر أحسن منظرًا _________________________
وأهون من مرءٍ صغير به كبرُ _________________________
قال أرسطو، آخر إفراط المتوقي أول موارد الحزن.
قال المتنبي:
وغاية المفرط في سلمهِ _________________________
كغاية المفرط في حربهِ
00000000000000000000000000000000000000000000000000 000000
((سيرة المتنبي))
بقلم
((سلمان هادي الطّعمة))
في فجر حياتي الأدبية شغفت بأبي محسَّد، وكان هذا الشغف يكبر معي.. لذا كانت هذه الدراسة استقطارا لذلك الشغف المتنامي.
كفى العربية فخرا شامخا وعزا ساميا أن تنجب هذه الشخصية الفريدة في فكرنا العربي. ولا أحسب شاعرا عربيا كان يمكن أن يكون في هذا العصر أبعد صرخة وأكثر حماسة وأورى زندا من هذا الشاعر. وقد لا أعدو الصواب إذا قلت أن المتنبي أغزر الشعراء فضلا وأوسعهم شهرة وأعلاهم منزلة، فقد رفع شأن الشعر العربي وأحله مرتبة لم تكن له من قبل، وحمل الراية عاليا، وفتح للشعراء طرائق الخلد، وسن لهم سنن المجد. وبذلك تبوأ مكانة رفيعة ومنزلة سامية، مما دفعنا إلى الإعجاب بعبقريته والافتتان بشعره.
ولد الشاعر الحكيم أبو الطيب المتنبي في محلة كندة بالكوفة . وقد أجمع الرواة أن تاريخ مولده هو سنة 303 هـ. ذكره ابن خلكان في تاريخه فقال: أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي الشاعر المشهور، وقيل هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار والله أعلم . وقال عنه ابن رشيق في كتابه العمدة: إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس ذلك هو أحمد بن الحسين الملقب بأبي الطيب المتنبي) .
ومهما يكن فهو عربي الأصل، نشأ في أسرة فقيرة، ويعرف أبوه بعبدان السقاء كان عمله سقاية الماء في محلة كندة، وقد أرسله حين درج إلى مدارس العلويين في الكوفة ليتعلم فيها القراءة والكتابة مع فريق من أولاد أشراف العلويين. وأخذ يختلف على دكاكين الوراقين لمطالعة بعض الكتب والكراريس، وكانت هذه الحوانيت منتدى للأدب، يقصدها العلماء والأدباء والباحثون، فلا بد أنه كان يلقى فيها كثيرا منهم ويتصل بهم. وطبيعي أن تلك الحوانيت هي التي مهدت للمتنبي ثقافته الأولى، ساعده على ذلك ذكاؤه الحاد، ويروى عنه أنه كان قوي الذاكرة، سريع الحفظ. وأنه ذهب إلى البادية وأقام فيها سنتين لتقويم لسانه وتعلم اللغة. ويبدو أنه سافر لهذه الغاية عندما أغار القرامطة على الكوفة سنة 312هـ، وغادرها ثانية سنة 319هـ مع كثير من أهلها لعودة القرامطة إليها بعد انتصارهم على جيوش الخلافة. ويحدثنا الرواة أنه خرج إلى بادية بني كلب. فأقام بينهم مدة ينشدهم من شعره ويأخذ عنهم اللغة، فعظم شأنه بينهم، حتى وشى بعضهم إلى لؤلؤ أمير حمص من قبل الإخشيدية بأن أبا الطيب ادعى النبوة في بني كلب وتبعه منهم خلق كثير، ويخشى على ملك الشام منه، فخرج لؤلؤ إلى بني كلب وحاربهم وقبض على المتنبي وسجنه طويلا ثم استتابه وأطلقه . ونحن لا ندري على وجه التحقيق لم ذهب المتنبي إلى البادية، هل ذهب إلى هناك ليتقن اللغة، أم أن أباه اضطر إلى الهرب من الكوفة واللجوء إلى الصحراء نتيجة للحوادث السياسية والاضطرابات التي كانت تتعرض الكوفة آنذاك!! فنحن نعلم أن الكوفة كانت عرضة لهجمات القرامطة الذين أقاموا لهم حكومة في البحرين، وكان النزاع بين رئيسهم أبي طاهر وبين الخلافة العباسية شديدا، فقد هاجم أبو طاهر البصرة سنة 311هـ، وقطع طريق الحج وسلب الحجاج العائدين من مكة سنة 312هـ.
وفي السنة نفسها قطع طريق الحجاج العراقيين الذاهبين إلى مكة، واغتنم فرصة الذعر الذي استولى على العراقيين، فدخل الكوفة ونهبها وضربها ثم عاد إلى البحرين. فلعل هجرة والد أبي الطيب إلى البادية كان نتيجة لهذا الذعر الذي لحق الكوفيين. ومهما يكن من سبب هذه الهجرة إلى البادية، فإننا نعلم أن والده استقر به في بادية السماوة عند بني الصابي، وهم فرع من جشم بن همدان أخواله، ومكث سنتين في بادية السماوة، ويبدو أن القرمطية اجتذبت في بدء ظهورها أنصارا لها من أوساط البدو المتحمسين. ولعل تلك الدعوة تناولت القبائل كافة ، مما حمل الدكتور ر. بلاشير على الاعتقاد بأنه لقي بعض القرامطة فتأثر بهم، فإن لم يتأثر بالدعوة القرمطية فليس بمستبعد أن يكون أصابه الاضطراب من جراء المأساة التي قلبت أوضاع الخلافة ويتابعه في هذا الرأي الدكتور طه حسين إذ قال: إن المتنبي قد أصبح قرمطيا من أثر بقائه في البادية، إذ أن القرامطة منذ ظهروا كانوا يجدون في بادية الشام حماسة للدعوة، فهو تأثر بهم أو أنه أصبح داعية من دعاتهم، وأنه طمع في أن يستهوي (بدر بن عمار أمير طبريا) إلى قرمطيته القديمة
عاد المتنبي إلى الكوفة ، ورجح بعض الباحثين أن ذلك كان سنة 315هـ، واستقر في الكوفة ، ولا نعلم على وجه التحقيق كيف قضى المتنبي حياته في الكوفة بعد عودته إليها، وكل الذي نعلمه أنه اتصل بشخص يعرف أبو الفضل الكوفي، وأبو الفضل هذا رجل قد ثقف الفلسفة. يقول صاحب الخزانة: إن أبا الطيب وقع في صغره إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما ضل . ولا ندري إذا كان أبو الطيب قد درس عليه الفلسفة حقا! وكل الذي نعلمه أن صاحب الوساطة يذكر لنا شعره الذي تأثر فيه بالفلسفة اليونانية، فهل كان ذلك لأنه درس الفلسفة، أو كان من أثر هذه الآراء العامة التي كانت شائعة بين المثقفين في ذلك العصر! ونحن أميل إلى الاعتقاد الثاني، فدراسة الفلسفة لا بد أن تكون قد تركت لها آثارا على شعره. وقد مدح أبو الطيب أبا الفضل بقصيدة غريبة فيها أبيات تلفت النظر أنها في الحقيقة تحوي آراء هي التي حملت بعض الباحثين على القول باعتناق المتنبي لمذهب القرامطة. ولكن ناشر ديوان المتنبي يقول عنها إن المتنبي إنما قالها ليمتحن عقب أبي الفضل، وكلا التفسيرين يجانبان الواقع، فنحن نعتقد أن المتنبي إنما ذكر هذه الصفات وهذه الآراء ليفخم بممدوحه، وأن المتنبي لم ير بأسا في مدح من يعتنق هذه المبادئ فيقول مثلا:
يا أيها الملك المصفى جوهرًا _________________________
من ذات ذي الملكوت أسمى من سما _________________________
نور تظافر فيك لاهوتيّه _________________________
فتكاد تعلم علم ما لم يعلما _________________________
ويهم فيك إذا نطقت فصاحة _________________________
من كل عضو منك أن يتكلما _________________________
أنا مبصر وأظن أني نائم _________________________
من كان يحلم بالإله فأحلما _________________________
كبر العيان عليَّ حتى أنه _________________________
صار اليقين من العيان توهما _________________________
ولكن هذا الكلام، وإن كان صريحا في ذكر الحلول، فلا يدل على أن المتنبي كان قرمطيا، وربما كانت هذه عقيدة ممدوحه أبي الفضل فذكرها تقربا إليه، وهو على كل حال، يدل على عدم اهتمام المتنبي بالتمسك بروح الدين. وبعد رجوعه من البادية إلي الكوفة ، لم يطل مكثه بها، فتركها إلى بغداد ، ولم يبق في بغداد طويلا، فخرج عنها إلى الشام. يقول طه حسين: إن المتنبي إنما ترك الكوفة بسبب عقيدته القرمطية خشية على نفسه من يؤاخذ، وأنه خرج إلى الشام بسبب هذه العقيدة ليتصل بالدعاة هناك ويعمل على نشر الفكرة .